المشهد الطبيعي المُتغيّر في أرض العلا

كما لو أن الزمن توقف، يسرد جبل الأبيض قصصًا من العصور الجيولوجية المفقودة في العلا، فمن قمته الشامخة التي ترتفع لـ2093 مترًا فوق سطح البحر، تتجلى عظمة المشهد الطبيعي الذي يحبس الأنفاس. هنا، حيث الأفق يضم في طياته لوحة فنية بديعة من البراكين السوداء والبيضاء، تتناثر كجزر فريدة في بحر لجي من تدفقات الحمم البازلتية القديمة، وتلك اللوحة الجيولوجية النادرة التي ترسم سيرة الطبيعة البركانية لهذه الأرض منذ حوالي 20 مليون سنة.

في واحة قديمة تبعد ثلاث ساعات بالسيارة عن مدينة العلا، يقف "جبل الأبيض" الواقع في قلب خيبر شاهدًا على التاريخ الجيولوجي الفريد، ويحتضن اسمه من طيات الصخور التي تكسوه فتبدو منحدراته كرداء أبيض، وهو ما يمنحه مظهرًا لا يُنسى كجبل ثلجي يتوسط الصحراء الحارقة. ينبع هذا الألق من طبقة الكومنديت الغنية بالسيليكا، وهو الرماد البركاني الذي يُزين الجبل بطيفه الأبيض النقي. وفي تناقض صارخ، يرتفع "جبل الِقدر" بمنحدراته البازلتية السوداء الشديدة الظلام، مثل حارس شامخ مكون من تدفقات الحمم المُتحجّرة التي تحكي قصص الفوران والعنف البركاني الذي شهدته هذه الأرض عبر العصور.

وتحت قدمي هذين العملاقين، تترامى حقول الحمم الشاسعة، معمار جيولوجي معقد من الفوهات والقباب البركانية والمخاريط الرمادية والمخاريط الصخرية التي تروي حكاية تشكُّل الأرض. هذا المنظر، الذي يشبه إلى حد كبير المشاهد القمرية الصماء، يقدم متحفاً طبيعياً مفتوحاً، ويعتبر تحفة فنية مرعبة ومذهلة في آنٍ واحد، تستحق العناء لكل من يسعى إلى فهم فصول الأرض المكتوبة في صفحات الزمن.

من خلال النظر إلى تشكيلات سطح الأرض فإنك تلاحظ بأن المخروطات الصخرية البركانية المنتشرة في هذا الجوف الصحراوي تروي حكاية إعادة تشكيل الأرض بصورة تكاد لا تُصدَّق، حيث إن هذه المخروطات الناشئة من تفاعل الحمم البركانية المُتدفقة وتصادمها مع المياه، تشهد على عصور مضت تُظهِرُ حين غمرت الأمواج هذه البقعة الجرداء، إذ تعمل الصهارة أو الحمم المُتفجرة على تحويل الماء المحيط بها إلى بخار، مخلفةً وراءها أعمدة من الرماد لتُشكل تلك المخاريط البركانية ذات الانحدار الحاد. هذه الظاهرة الجيولوجية تعطينا لمحة عن تاريخ العلا المائي وتتحدى الواقع الجاف الذي نشهده اليوم.

 تأملوا الصخور الرملية الحمراء الباهرة التي تمثل المسرح الخلاب للعلا، حيث تم تشكيلها قبل نصف مليار سنة (500 مليون عام) في حقبة كانت الأرض فيها تخلو من أي شكل من أشكال الحياة المُتقدمة. وليس فقط أن العلا لم تكن تقبع حيث هي اليوم، بل إن الحركة الدائبة للصفائح التكتونية – تلك الألواح الضخمة المتحركة التي تشكل قشرة الأرض – قد حملت القارات عبر الأزمان إلى مواضعها التي نعرفها الآن، وهي لا تزال تتحرك بخطى توازي سرعة نمو الأظافر. قبل نصف مليار سنة، كان كوكب الأرض مختلفًا بشكل جذري: حيث كانت العلا تقع على بعد آلاف الكيلومترات غربًا، ولم تكن الجبال الساحرة والوديان العميقة والتكوينات الصخرية الفريدة قد برزت بعد إلى وجودها، بل كانت تنتظر بصمت تحولات الزمن الجيولوجي لتكشف لنا عن طبيعتها الساحرة. 

في عمق التاريخ الجيولوجي، كانت العلا جزءاً من حافة قارة جوندوانا الشاسعة، تلك الكتلة الأرضية الضخمة التي سادت العالم القديم. فبمناظرها الخالية من الغابات والنباتات وحتى التربة السطحية، كانت العوامل الطبيعية تٌغيّر بطبيعتها وتضاريسها عبر التآكل المستمر ونقل كميات مهولة من الرواسب التي سحقتها الأمطار الغزيرة وجرفتها الأنهار نحو البحار، حيث كان عرض الأنهار آنذاك يفوق المائة كيلومتر (100 كم)، ولذا كانت قادرة على حمل الرواسب وتفتيتها وترسيبها في أعماق الزمن. وتشهد الصخور الرملية الباقية الآن على هذا العصر الغابر.

أما البحار بتقلباتها المستمرة، تقدمت وانحسرت عن اليابسة تاركةً وراءها طبقات من الصخور التي نستدل بها اليوم على ماضي العلا البحري. تلك الرواسب التي تُقدَّر بآلاف الأطنان من الرمال، تم دفنها وضغطها وتسخينها تحت وطأة الزمن، حتى طُرد منها الماء وتحولت إلى صخور رملية صلبة، وثم بقيت هذه الصخور كنزاً مدفوناً تحركت مع الصفائح التكتونية ببطء تحت ثقل هائل كان يتشكل فوقها عبر الزمن. 

شهدت العلا مرور الديناصورات وانقراضها، وشهدت انتشار الثدييات في أطراف الأرض المترامية. وفي زمن قريب نسبياً، منذ حوالي 40 مليون سنة، مع بداية تشكل البحر الأحمر، شهدت هذه المنطقة حدثاً محورياً؛ إذ تم رفع هذه الرواسب من تحت الأرض لتصبح هضبة رملية شامخة. ومن ثم، بفعل الزمن وعوامل التعرية مثل الرياح والأمطار، تشكلت المناظر الطبيعية الفريدة التي نشهدها اليوم، شاهدةً على عظمة الماضي ومسرحاً لصبر الطبيعة وإصرارها.

 من بين ثنايا الصخور الرملية، تنبثق علامات تحكي قصصًا عن عصور ما قبل التاريخ، تروي أسرار عالم قديم تلاشى في غفلة من الزمان. وأحيانًا، تظهر لنا تلك العلامات بصمات تدل على أن الحياة كانت يومًا تنبض في هذه البقاع المنسية. نتبع أحيانًا درباً متعرجاً من الأخاديد المُتحجرة التي تأخذ شكل شراع، تهمس لنا بوجود بعض أقدم دلائل الحياة على كوكب الأرض. إنها آثار الثعابين البحرية، تلك المخلوقات البحرية الغامضة التي زينت بيئة العلا منذ ما يزيد عن 485 مليون سنة. فمنظرها يشبه إلى حد بعيد البعوض المتحجر، لكنها في الواقع أقرب في صلتها إلى العناكب. هذه الآثار المحيرة هي ما تبقى لنا من عالم اختفى إلى الأبد. لم يُكتَشَف بعد أي حفريات متكاملة لها، ولكن الباحثين والجيولوجيون مستمرون في البحث بلا توقّف.

 تلك هي العلا، بمناظرها الطبيعية المتحولة دومًا، تُشكّل مسرحاً لتأثيرات العوامل الطبيعية التي لا تهدأ أبداً، حيث تعمل الشمس والرياح والماء معًا على نحت وتشكيل الصخور الرملية لتُبدع أروع التكوينات الصخرية التي تُبهر العالم، ولتكون مصدر إلهام لا ينضب للرحالة الذين يتركون لخيال الانسياب في الهواء الطلق، وللعائلات التي تعشق الاستكشاف، وللزوار من كل الأعمار ممن تُذهلهم العجائب الطبيعية الآسرة، فهنا ترى "صخرة سمكة الصحراء، صخرة الوجه، صخرة الفطر" والعديد من الصخور الأخرى التي ترى وتتنفس الحياة فيها وفقًا لمسمياتها: وحتى أن في لغة الصخور الخفية تكمن حكاية متفردة في "الصخور الراقصات" حيث يقف زوج من أعمدة الصخور الرملية المنحوتة ببراعة ليشكلا معاً تمثالاً يبدو وكأنه يتمايل بانسجام وتناغم لا يقاوم.

 من بين معالم العلا الأثرية التي تتربع على عرش الدهشة، "جبل الفيل"، مترفعًا بشموخ نحو السماء بارتفاع 50 مترًا. يُعانق قوامه الصخري الأفق بحيث لا يكاد يختلج في النفس شك فيما يمثله. إن التكوين الجَليّ لهذه الصخرة يحمل في طياته وضوحًا مذهلاً، حتى إن المرء قد يُعّذَر إن اعتقد أن يدًا بشرية من حضارة قديمة قد شكلتها على هيئة فيل بفعل فني مقصود؛ فسكان العلا القدماء قد أثبتوا بجدارة قدرتهم على صنع إنجازات هندسية مبهرة. ومع ذلك، فإن الفنان الحقيقي الذي نحت هذا المعلم لم يكن سوى الطبيعة بأناملها الراسخة. وعبر الأزمنة، تحت تأثير العوامل الطبيعية المتآلفة، تواصل العلا رحلة تطورها الأبدي. من الحرّات البركانية إلى الجرف الرملي الذي يفيض بهاءً، تظل العلا بلا منازع حكاية متواصلة محفورة بمعول الزمن على صفحات صخورها.

 

استكشف أجمل معالم العلا