الحفاظ على الإرث الإنساني الفريد في المنطقة

بمنتهى الحرفية والدقة والتركيز، تعمل النساء على خياطة الأقمشة والمنسوجات اليدوية، كل خيط مستخدم في هذا العمل تمت في الأساس صباغته بألوان مستخرجة من مواد عضوية ومصادر طبيعية من خيرات أرض العلا. لوحة خالدة، تعود بنا إلى الزمن الماضي، لنرى جمالية الألوان وبراعة الأدوات والتقنيات القديمة. هذا ليس بالمشهد القديم ولا لقطة تروي التاريخ، هذه ورشة عمل حرفية تقليدية تزدهر اليوم في العلا. هنا نرى الحاضر يندمج بسلاسة ليستكمل إبداعات الماضي، والحِرف التقليدية التي تجسد أصالة التراث وعراقته. 

تقوم النساء في مدرسة الديرة، أوّل مدرسة ثانوية للبنات في العلا، والتي تعتبر شاهداً حياً على التزام أهل العلا بالحفاظ على هويتهم وتراثهم الثري بإحياء الحِرف التقليدية. تشكّل هذه الحِرف رابطاً أساسياً بإرث العلا وتجسد أصالة التراث الثابت الذي يحافظ على كينونته ويتطور في الوقت نفسه ليواكب تطورات العصر الحاضر.  

ورش عمل متخصصة بإشراف مدرّبين، مقيمين وزائرين، يقومون خلالها بإرشاد وتدريب نساء العلا على مجموعة متنوعة من الحِرف اليدوية التقليدية. أصابع رشيقة تعمل بمنتهى الخفة والدقة والحِرفية لنسج مواد متنوعة مثل الصوف، والقطن، والحجر الجيري، والخشب، والمعادن الثمينة، والأحجار الكريمة وسعف النخيل لتصنع منتوجات يدوية أقل ما توصف بأنها لوحات فنية مبهرة تحكي في تفاصيلها وألوانها بيئة العلا الطبيعية الساحرة.

تُعرف الحِرف التقليدية بكونها متعة للحواس لكن مفهومها في مدرسة الديرة أعمق من ذلك بكثير. تُعتبر الحِرف التقليدية وسيلة لحفظ التراث والاعتزاز بالإرث العريق للعلا. لذلك تحوّلت مدرسة الديرة اليوم إلى مركز طموح للفنون والتصاميم، يُمكّن أهل العلا من المساهمة في إحياء الحِرف التقليدية ويستقبل الزوّار من كافة أنحاء العالم. مركز تلتقي فيه الحداثة بالأصالة للحفاظ على تراث العلا وإرثها العريق من خلال دمج التقنيات الحديثة والفكر الإبداعي المعاصر.  

تُعيد نساء العلا إحياء الحِرف اليدوية السعودية المتوارثة عبر الأجيال مثل نسيج السدو، وهي مهنة بدوية قديمة تعتمد على تلوين شعر الإبل لتشكيل المنسوجات التي تتميّز بتصاميمها ورموزها المستوحاة من تراث وطبيعة المنطقة، بالإضافة إلى صناعة المجوهرات، وفن التخطيط، والتلوين على الجدران وغيرها الكثير. تأسست مدرسة الديرة في عام 2021 وأصبحت بالتعاون مع مؤسسة «تركواز ماونتن»، التي أسسها جلالة الملك تشارلز الثالث في عام 2006، بهدف إعادة إحياء الحِرف اليدوية وتوفير فرص العمل والتدريب لأهالي العلا.

إبداعات تتجاوز في أهميتها جمال التصاميم. بالإضافة لحِفاظ هذه المنتوجات اليدوية على هوية العلا وتراثها العريق، هي أيضاً وسيلة لدمج وتمكين الأهالي والمجتمع المحلي، ومصدر لا ينضب للفرص الاقتصادية، ولمسة فنيّة تثري تجارب زوّار العلا. هنا تنسج كل إبرة خيوطاً من العمل الجماعي التي تقوي النسيج الاجتماعي لأهل العلا. هنا يُنسج مستقبل مليء بالفرص لأهالي العلا، هنا تُنسج هوية العلا الأصيلة ليعرفها العالم ويتذكّرها زوّارها. 

ولأنّ رؤية مدرسة الديرة هي جزء من رؤية العلا الأوسع المتمثلة في الشمول المجتمعي، تعمل المدرسة من خلال مبادراتها على تمكين نساء العلا والمجتمع المحلي وتعزيز التنمية المستدامة. حيث تقدّم المدرسة برامج التدريب المهني الشاملة والمنح التعليمية والمبادرات الثقافية، كجزء من استثمار الهيئة الملكية لمحافظة العلا في التنمية الشاملة لسكانها، ورعاية مجتمع ينهض بالمستقبل.

وفي ظل النمو السريع والمستدام للسياحة في العلا، يتسع أفق الفرص لمستقبل أكثر إشراقاً للجميع. حيث تُسهم المدرسة في دعم وإثراء الفعاليات الفنية مثل مهرجان العلا للفنون الذي يُعد بمثابة مساحة ملهمة لاستعراض التراث الفني الغني للعلا، ووسيلة لتعزيز مكانتها العالمية المزدهرة كمركز للفنون من خلال ورش الحِرف اليدوية الأصيلة.

غرزة تلو الأخرى تتم حياكتها في مدرسة الديرة لتقديم منتوجات يدوية تُعيد إحياء إرث العلا، ودورها المحوري على طريق تجارة البخور قديماً. إبداع وحرفية تؤكد مكانة العلا الثقافية والفنية، وتتغنّى بتراثها العريق، وتُخلّده للأجيال القادمة.